بعد الإعلان عن تشكيلها، أول من أمس الجمعة، وفي انتظار جلسة نيل الثقة البرلمانية الأسبوع المقبل في وقتٍ لم يحدّد رسمياً بعد، تدرك الحكومة اللبنانية الجديدة بقيادة نجيب ميقاتي حجم التحديات الماثلة أمامها، المتنوعة أمنياً واقتصادياً وسياسياً. وعلى الرغم من عمرها القصير نسبياً، إذ من المفترض أن تنتهي مهمتها بعد 8 أشهر في مايو/أيار المقبل، بعد إجراء الانتخابات النيابية المقررة في ذلك الشهر، إلا أن الحكومة مُطالبة، وتحت عنوان “تأمين الاستقرار النسبي”، بتطبيق سلسلة من الإجراءات، وهو ما وعد به ميقاتي في كلمة له بعد تشكيلها. في الأوضاع الأمنية، يحفل شهر سبتمبر/أيلول الحالي بسلسلة استجوابات واستدعاءات لقاضي التحقيق العدلي طارق بيطار في ملف انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب الماضي 2020، الذي سقط ضحيته أكثر من 220 شخصاً وجُرح 6500 آخرون وشُرّد 300 ألف شخص، فضلاً عن وقوع خسائر مادية بمليارات الدولارات. وعلى الرغم من الضغوط التي يتعرّض لها بيطار، واتهامه بـ”تسييس الملف”، غير أنه يواصل عقد اللقاءات مع المتهمين والشهود. وتشمل لائحته أسماء أمنية وسياسية، من قادة عسكريين ووزراء سابقين ورئيس الحكومة السابق حسان دياب، الذين سيتوالى الحديث معهم في الأسبوعين الأخيرين من الشهر الحالي.
وفي ظلّ ترقّب الموقف الحكومي الجديد إزاء التحقيقات، أكد وزير العدل الجديد هنري خوري، في تصريحات صحفية، أن “ملف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت محكومٌ بالسرية التامة، ولا سلطة لي على القاضي، وسأقوم بدوري وفق الصلاحيات المنصوص عليها دستورياً”. وفي نقطة تُشكّل حماية لعمل بيطار، قال خوري: “إن التعاطي مع ملف انفجار بيروت سيكون قضائياً وضمن القانون، ومن لديه مشكل مع القاضي بيطار أو مآخذ مثلاً على قراراته أو تصرفاته، فهناك هيئة التفتيش القضائي وإجراءات يمكنه سلوكها. كما حصل في دعوى الارتياب المشروع التي تقدّم بها الوزيران السابقان، النائبان الحاليان علي حسن خليل وغازي زعيتر، في وجه المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوان”.
وفي السياق، كشفت مصادر أن أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت يستعدّون للقيام بتحركات، مطلع الأسبوع المقبل، بهدف تقديم الدعم اللازم للمحقق العدلي في وجه ما يتعرض له من حملات. وسبق للأهالي أن احتجوا مراراً وتعرّضوا لاعتداءات من حرس المجلس النيابي، التابع لرئيسه نبيه بري.
وإضافة إلى انفجار بيروت، فإن أمام الحكومة تحدياً أمنياً آخر، مرتبطا بانفجار خزان وقود في بلدة التليل في عكار، شمالي لبنان، في 15 أغسطس الماضي، والذي أودى بحياة أكثر من 30 شخصاً. ويتعلق الأمر بالتحقيقات القضائية، مع اتهامات لنواب بالتغطية على محتكري ومهربي محروقات في المنطقة. وتحتاج الحكومة أيضاً إلى إيلاء الأولوية للأمن الاجتماعي، النابع من تفاقم البطالة وغلاء الأسعار واستمرار الخلافات اليومية في طوابير البنزين، فضلاً عن حل مشكلة العناصر التي تترك الأجهزة الأمنية، بسبب تردّي الوضع المعيشي.
وفي خضمّ هذه الأولويات الأمنية الداخلية، يبقى ملف الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة أساسيا، في ظلّ تزايد التوترات بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي في العامين الماضيين. اقتصادياً، أدى شحّ المواد الأساسية في لبنان، من محروقات وأدوية وغذاء، إلى استيلاد سوق سوداء، مستندة بدورها إلى سعر صرف متحرك للدولار مقابل الليرة في السوق عينه تجاوز الـ23 ألف ليرة منذ أسابيع. مع العلم أن سعر الصرف الرسمي، الثابت منذ عام 1998، لا يزال 1507.5 ليرات مقابل الدولار. وتحتاج الحكومة إلى العودة إلى المحادثات مع صندوق النقد، بغية تطبيق الإصلاحات الضرورية في مختلف القطاعات، خصوصاً أن الأرقام تشي بواقع سلبي للغاية. فخلال عامين، سقط نحو 78 في المائة من اللبنانيين في براثن الفقر، وتخلف لبنان في بدايات الأزمة عن سداد الدين العام الضخم، بما في ذلك 31 مليار دولار من سندات اليوروبوند التي لا تزال مستحقة للدائنين.
وانخفضت قيمة العملة أكثر من 90 في المائة مما أدى إلى تدمير القوة الشرائية في بلد يعتمد على الواردات. وأصيب النظام المصرفي بالشلل. ومع منع المودعين من سحب مدخراتهم بالعملات الأجنبية أو إجبارهم على سحب النقود بالعملة المحلية المنهارة، فإن هذا يعد حالياً بمثابة هبوط فعلي في قيمة الودائع بنسبة 80 في المائة. وذكر برنامج الغذاء العالمي أن أسعار المواد الغذائية قفزت 557 في المائة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، كما انكمش الاقتصاد بنسبة 30 في المائة منذ عام 2017. وأدى نقص الوقود إلى إصابة الحياة العادية بالشلل، مما أثر على الخدمات الأساسية، بما في ذلك المستشفيات والمخابز. ونفدت أيضاً الأدوية الحيوية. وغادر الكثير من اللبنانيين البلاد.
سياسياً، أمام الحكومة استحقاق الانتخابات النيابية في مايو المقبل، وهو استحقاق ينتظره الكثير من المعارضين للرئيس ميشال عون وحزب الله والطبقة الحاكمة، باعتباره “محطة تغييرية” لقلب الأكثرية النيابية من جهة إلى أخرى. وأكثر من يدفع باتجاه التحضير للانتخابات، بل والدعوة إلى إجرائها في وقت مبكر، هما رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، ورئيس حزب “الكتائب اللبنانية” سامي الجميّل. ومع أن العديد من المراقبين أبدوا مخاوفهم من احتمال تأجيل الانتخابات، إلا أن ميقاتي وعون والأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، شدّدوا في مناسبات مختلفة، على إجراء الانتخابات في موعدها.
وأمام هذه التحديات وتمسّك ميقاتي بتكليفه وصولاً إلى تشكيله الحكومة، يبدو أن السلطات اللبنانية ستحاول القيام بإجراءات معينة، للحصول على مساعدات دولية. وفتح الترحيب الدولي، من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، خصوصاً فرنسا، الباب أمام إنقاذ الوضع اللبناني. وحيال هذه التطورات، يدرك ميقاتي ما هو المطلوب منه، وهو ما ظهر في كلمته يوم الجمعة، من قصر بعبدا الرئاسي، التي تطرّق فيها إلى الوضع الاقتصادي المتردّي، والتي تخللها لحظة انفعالية بكى فيها. وقال: “أؤكد لكم أننا نشكل فريق عمل يعمل يداً واحدة لمنع الإحباط واليأس، وسنعمل بأمل وعزم. هذا ما أعدكم به اليوم، ولن نوفر ثانية إلا وسنتصل بكل الهيئات الدولية كي نستطيع تأمين أبسط أمور الحياة التي صارت أساسية”. وأضاف “لن أترك فرصة متاحة إلا وسأعمل بها على قرع أبواب العالم العربي”. وحول إمكانية تعطيل العمل الحكومي مستقبلاً، شدّد ميقاتي على أنه “لا نريد لأحد أن يعطل، ومن يريد التعطيل فليخرج من الحكومة، ويتحمل مسؤولية عمله. اليوم نتكلم عن ورشة عمل”.
وكشف عن خطة “ستنفذها الحكومة، وسيتم طرحها في أسرع وقت للقيام بإنقاذ البلد”. وحول رفع الدعم الحكومي عن المواد الأساسية، قال: “في ما يتعلق برفع الدعم، فنحن اليوم وصلنا إلى النهاية، فمن أين سنأتي بالدولار لمواصلة الدعم؟ ليست لدينا رغبة في رفع الدعم، ولكن ليست هناك أموال للدعم. هذه ليست رغبتنا، ولكن لم تعد لدينا أي احتياطات أو أموال للمساعدة، وتالياً علينا جميعاً أن نتحمل”. لكنه أكد أنه “نحن اليوم في طائرة تقوم بهبوط اضطراري سريع، وما نطلبه من الركاب، أي من اللبنانيين، هو شدّ الأحزمة لنتمكن من الإقلاع سريعاً”. وحول التعاون مع النظام السوري، أعلن ميقاتي: “نحن نتعامل مع أي كان، باستثناء إسرائيل طبعاً”. وتعهّد بتنظيم الانتخابات النيابية في موعدها، وكذلك الانتخابات البلدية والاختيارية في اليوم نفسه، أي 8 مايو المقبل.