الجمعة 30 اغسطس 2019 08:38 م بتوقيت القدس
كان يرسم لهدف واحد.. أن يصل بريشته إلى فلسطين. بالنسبة له، الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة.
حتى يومنا هذا لا تزال الشرطة البريطانية تطلق نداء في كل عام للحصول على معلومات بشأنه، أملا في أن “يشعر شخص ما بقدرة أكبر على التحدث بحرية ” بحسب آخر نداء لشرطة “سكوتلانديارد”.
جريمة عمرها 32 عاما لا يزال لغزها بلا حل، القاتل بلا ملامح باستثناء صورة تقريبية لهوية منفذ عملية الاغتيال عرضتها “سكوتلانديارد” إلى جانب صورة للمسدس الذي استخدمه القاتل بجريمته.
مكث في غيبوبة حتى وفاته ودفن في لندن رغم طلبه أن يدفن إلى جوار والده في مخيم عين الحلوة، حيث رسم أولى رسوماته على جدران المخيم حفرا وبالطباشير.
تميز ناجي سليم حسين العلي، المولود عام 1937 في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، بالنقد اللاذع، والسخرية السوداء، عبر أربعين ألف رسم كاريكاتوري كانت تأخذ شكلا تحريضيا حينا، وشكلا ثوريا حينا آخر، كما يقول عن رسوماته.
بعد احتلال فلسطين عام 1948 هاجر ناجي العلي مع أهله إلى جنوب لبنان، وعاش في مخيم عين الحلوة، سافر بعدها إلى طرابلس ونال منها شهادة ميكانيكا السيارات، ثم التحق بالأكاديمية اللبنانية عام 1960 ودرس الرسم فيها لمدة عام.
اكتشفه القاص والروائي والصحافي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني بعد أن شاهد رسوماته أثناء زيارته لمخيم عين الحلوة، فنشر له أولى لوحاته في مجلة “الحرية” عام 1961 وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوح.
وستكون دولة الكويت بابا واسعا للشهرة والإبداع يفتح له ليعمل محررا ورساما ومخرجا صحفيا في عدة صحف ومجلات كويتية من بينها: “الطليعة”، “السياسة”، “القبس”، “القبس الدولية”، و”السفير” اللبنانية.
رافقت جميع رسومات ناجي، شخصية الصبي “حنظلة” التي تمثل صبيا في العاشرة من عمره، ويرمز للفلسطيني المعذب والقوي، ورغم كل الصعاب التي تواجهه فهو شاهد صادق على الأحداث لا يخشى أحدا وغير مكترث، أدار ظهره للعالم ويداه خلف ظهره.
يقول ناجي إن “حنظلة” ولد مع حرب الخامس من حزيران/ يوينو 1967، مؤكدا أن “حنظلة” هو بمثابة “الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية”.
وعن “حنظلة” يقول أيضا: “ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء”.
وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي:” كتفته بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع”.
وعندما سُئل ناجي عن موعد رؤية وجه “حنظلة” أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.
قدم ناجي شخصيات أخرى رافقت “حنظلة” من بينها شخصية المرأة الفلسطينية والتي تمثلها “فاطمة” وهي شخصية قوية وغاضبة لا تهادن، مواقفها واضحة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بعكس شخصية زوجها الكادح والمناضل النحيل ذي الشارب، المتردد والمستكين، وهو في النهاية رجل طيب ومسالم.
مقابل هاتين الشخصيتين تقف شخصيات أخرى، فهناك شخصية السمين صاحب المؤخرة العارية والذي لا أقدام له مقلدا به بعض القيادات الفلسطينية والعربية والخونة والمطبعين، وأيضا شخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكا أمام حجارة الأطفال، وخبيثا وشريرا أمام القيادات الانتهازية.
نقده الشديد والمباشر وعدم مهادنته لأي شخصية أو نظام كانا السبب وراء إطلاق النار عليه في لندن في تموز/ يوليو 1987. وكان تلقى عددا من التهديدات بالقتل بسبب رسومه الكاريكاتيرية، التي سخر فيها من السياسات والسياسيين في الشرق الأوسط.
بعد غيبوبة لأكثر من شهر توفي ناجي العلي في 29 آب/ أغسطس 1987، بعد أن تلقى رصاصة في رقبته من الخلف في وضح النهار بينما كان يترجل من سيارته إلى مكتب صحيفة “القبس” الكويتية في نايتسبريدج، حيث كان يعمل في ذلك الوقت.
وتابع الشهود المسلح المشتبه به وهو يتبع العلي، ثم لاذ بالفرار من الموقع على قدميه.
وجرى وصفه بأن عمره يبلغ نحو 25 عاما، وأن ملامحه شرق أوسطية، كما أبلغ شهود عن رؤية رجل آخر في الخمسينيات من العمر، وأصوله شرق أوسطية أيضا، وهو يركض قريبا من الحادثة، ويده داخل جيبه كما لو كان يخفي شيئا ثم دلف إلى سيارته المرسيدس، وقادها مبتعدا.
ويكتنف الغموض اغتيال ناجي العلي فبعد اغتياله راجت عدة فرضيات حول الجهة التي نفذت عملية الاغتيال من بينها “الموساد” الإسرائيلي، وأطراف فلسطينية، أو نظام عربي أزعجته انتقادات ناجي اللاذعة.
وتقول التحقيقات البريطانية التي نشرت سابقا أن أحد المشتبه بهم يدعى بشار سمارة كان منتسبا إلى منظمة التحرير الفلسطينية لكن في الواقع كان عميلا لدى “الموساد” الإسرائيلي.
وقامت الشرطة البريطانية، باعتقال طالب فلسطيني يدعى إسماعيل صوان ووجدت أسلحة في شقته، ولم توجه له تهم تتعلق بجريمة اغتيال ناجي رغم الشكوك بعضويته في “الموساد”.
وكانت لدى الشرطة البريطانية قناعة بأن “الموساد” متورط بالجريمة، والذي رفض بدوره، وبشكل رسمي التعاون مع التحقيقات البريطانية، ما أثار غضب رئيسة وزراء بريطانيا حينذاك مارغريت ثاتشر التي قامت بإغلاق مكتب “الموساد” في لندن.
وبحسب شهادات لعدد من الكتاب والصحفيين الفلسطينيين والعرب، فقد واجهت جريمة اغتيال ناجي حملة تضليل واسعة منذ اليوم الأول، وحاولت وسائل الإعلام البريطانية إلصاق التهمة بإيران التي كانت تخوض مع العراق حرب الثماني سنوات، وما لبثت وسائل الإعلام نفسها أن ألصقت التهمة بالعراق نفسه، رغم أن ناجي لم ينحز إلى أي طرف في تلك الحرب، كما أنه تم التلميح إلى شاعرين وروائي فلسطيني، ما زاد في التمويه وإرباك الرأى العام وحرف الأنظار عن القاتل الحقيقي ومدبر عملية الاغتيال.
وتميل الفرضيات إلى أن “الموساد ” هو الذي دبر الاغتيال وذلك لانتماء ناجي إلى “حركة القوميين العرب” التي قامت “إسرائيل” باغتيال بعض قياداتها من بينهم غسان كنفاني. وتشير بعض المعلومات إلى أنه عقب فشل محاولة “الموساد” في اغتيال خالد مشعل في عمان، فقد قامت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية بنشر قائمة بعمليات اغتيال نفذها “الموساد” وذكر اسم ناجي العلي في القائمة.
كان اغتيال ناجي العلي بكاتم الصوت الذي طالما أدانه برسوماته رسالة بأن للكلمة والخط المرسوم والريشة وقع وتأثير أقوى من طلقات الرصاص.
جريمة قتل بلا عقاب، لفنان استثنائي وأيقونة فلسطينية وعربية قادته الأقدار لأن يصبح رسام كاريكاتير، وكان لديه توجه في بداية شبابه نحو المسرح. كان يريد أن يصرخ بالكلمة التي تنقل مشاعره وأحاسيسه، لكن الظروف دفعته للعمل في المجال الصحفي واكتشف أن الكاريكاتير هو الأداة المناسبة للتوصيل، وربما الموت أيضا بكاتم الصوت.
سنبقى نتذكر عبارته الغاضبة: “كلما ذكروا لي الخطوط الحمر طار صوابي، أنا أعرف خطا أحمر واحدا: إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع على اتفاقية استسلام وتنازل عن فلسطين”.
يرقد الرجل الذي نجح في صياغة الوعي والذاكرة الفلسطينية والأب الروحي لرسامي الكاريكاتير في العالم العربي، بسلام في مقبرة “بروك وود” الإسلامية في لندن، وقبره يحمل الرقم 230190؛ وهو القبر الوحيد الذي يرتفع فوقه العلم الفلسطيني.