الجمعة 20 اكتوبر 2017 15:44 م بتوقيت القدس
يروى أن أعرابية كانت تحتضر وفي النزع الأخير وكان لها ولد وبنت، فحرصت أن يكون آخر عهدها بالدنيا نصيحة ثمينة توصي بها ولديها، فنظرت إلى ابنها وقالت له: ( أوصيك يا بنيّ أن تكون لاختك أبًا وقد أوصيتها أن تكون لك أمًا، واعلم يا بُنيّ أنها ضيفة نازلة عندك فلا تجعلها تشعر بغضاضتك فتكون لئيما عليها، والمرأة لا تحب إلا الكريم وتكره اللئيم ). ومع أنها كانت في ساعات احتضار إلا أنها تمالكت نفسها وأسندت ظهرها إلى الحائط ثم نظرت وأحَدَّت النظر إلى ابنها وقالت: ( واعلم يا بُنيّ أن ثوب الرجولة من نار، فلا تضق به، وإن الجسم مهما كبر وتضخم فلا بد أن تأكله الديدان بعد أن يتحلل ويتعفن، فلا تدّخر جسمك طعامًا للديدان يا بني، واعلم أن كل عَرَقٍ لم يُخرجه من جسدك بذلٌ ولا جهاد في سبيل الله فسيخرجه الحياء والخوف من الله يوم العرض عليه يوم القيامة ) ثم أسلمت الروح إلى بارئها .
هكذا هي الأم العاقلة الحصيفة لا تدع فرصة إلا وجعلتها في نفع وفائدة، لا بل إن الأم العاقلة فإنها تربّي بفعلها فتكون قدوة عملية وتربي بقولها فتوجه النصائح. إنها تربّي عندما تتكلم وتربي حتى في صمتها ونظرات عينيها، تعبّر فيهما عن صواب وخطأ فعل أبنائها. إنها كل العمر تربي وإنها في ساعات الاحتضار الأخيرة ترسل أصدق نصائحها ووصاياها لكأنها وصية مودع وهي حتما ستكون أغلى الوصايا، ولعلّ الابن سيحرص أيّما حرص على تنفيذ هذه الوصايا لأنها الأخيرة التي يسمعها من فم أمّه.
ما أجمل أن توصي الأم الأخوة بأخواتهم، وأن توصي الأخوات بإخوانهن. توصيه بأن يكون لاخته في مقام الأب، وتوصيها أن تكون لأخيها في مقام الأم، بما للأب من صفات تحتاجها البنت وبما للأم من صفات يحتاجها الابن فلعله يجدها في أخته بعد موت أمه.
لكأن هذه الأم لم تجد أبشع من اللؤم ولا أقبح منه صفة في الرجال، فاختارت أن تحذّر ابنها من هذه الصفة فلا يتعامل بها مع كل الناس ولكن مع اخته بشكل خاص، لأن من أكثر ما تكرهه وتبغضه المرأة في الرجال أن يكون لئيما، ومن أعظم ما تحبه في زوجها أن يكون كريما، لأن الكريم إذا أحبها أكرمها وإذا كرهها لم يظلمها، لذلك كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حادًا لمّا قال :” ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم”.
لم تبخل هذه المرأة أن تجود على ابنها بوصية هي نتاج تجربة ومعرفة بأطباع الرجال لما تقول له ( واعلم أن ثوب الرجولة من نار فلا تضق به). إنها تقصد أن الرجولة لها متطلبات ومقتضيات، وأن الرجولة ليست بالبلوغ ولا بظهور شعر الإبط وحلق شعر الوجه وتربية الشارب كما يظن البعض. وإنما الرجولة في سلوكيات ومواقف قد تجعل الرجل مضطرا للتنازل عن مباحات قد تكون سببا في إهدار رجولته أو المساس بها. إن الرجولة قد تضطر بالرجل لأن يأخذ بالعزيمة على حساب الرخصة، ولعله يضيّق على نفسه حتى كأنه يضع حزاما من نار حول عنقه أو صدره ولكن مقتضى الرجولة وثمنها يتطلب ذلك. فكم من الناس من أهدروا رجولتهم في مواقف تافهة، وكم من الناس من أهدروا رجولتهم عند مالٍ سالَ لأجله لُعابهم، وكم من الرجال من أهدروا رجولتهم عند ابتسامة من غانية، وكم من الرجال من أهدروا رجولتهم عند منصب وعدوا به، وكم من الرجال من مرّغت رجولتهم في التراب ودنست لأنهم لم يتمالكوا أنفسهم عند مغريات الدنيا المال أو النساء أو المناصب. لذلك فإن الرجل الرجل هو الذي يتعالى على كل هذا وإن كان له ثمن، بل لعله يشعر بحزام من نار يلفّه، فعليه أن يحتمل ذلك ولا يضيق به، لأن بهذا يكون الحفاظ على رجولته.
وكم كانت عظيمة هذه الأم وهي تذكّر ابنها بالموت، بالقبر، بالحشر والعرض على الله يوم القيامة.
إنها تذكّره أن الجسم الضخم كذلك ليس من مقتضيات ودلالات الرجولة، فكم من ضخم عملاق لا يزن إنما يكون يوم القيامة مثل “الذر” أي النمل الصغير الذي لا يشعر به الإنسان عندما يدوسه. إن الجسم بلا إيمان ولا قيم ولا مبادئ لا يساوي شيئا كما قال الشاعر:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إن الجسم الكبير سيكون مائدة دسمة لديدان الأرض كما تقول الأم في وصيتها لابنها، فليست العبرة في الجسد وإنما بالروح التي في الجسد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن ضحكوا يوما وقد رأوا ساق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الضعيفة الرقيقة ” أتضحكون من ساق ابن مسعود؟ إنها والله أعظم عند الله من جبل أحد يوم القيامة “.
كم كانت عظيمة هذه الأم وهي تدعو ابنها إلى عظائم الأمور وجلائل الأفعال، وليس إلى أرذلها وأسفلها ( واعلم أن كل عَرقٍ لم يخرجه جهاد في سبيل الله فسيخرجه الحياء والخوف من الله يوم القيامة ).
إن خير البذل وأصدق العطاء هو ما يكون لله تعالى، وإن من الناس قد يبذل من أجل الدنيا ويتعب ويتفانى من أجل الباطل، بينما هو يبخل للحق ومن أجل نصرته. إنها تقول له إعرَق في سبيل الله واتعب في سبيل الله وابذل لنصرة الدين، لأنك إن لم تفعل ذلك الآن فإن عرقك سيسيل ولكن حياء وخجلا من تقصيرك بين يدي الله رب العالمين يوم القيامة، وعندها ستندم ولكن ولات حين ندامة.
لكأني بهذه الأم تريد أن تجعل من ابنها رجلا وأي رجل، إنها تريد أن تصبغه صياغة إيمانية خالصة، إنها لا تريده أن يكون رقما بين الأرقام ولكنها تريده صاحب مكانة ومنفعة لنفسه ولدينه ولأمّته وهي تعلّمه الرجولة بأنها العطاء في سبيل الله، وليست الرجولة بفخامة الأجسام. لكأني بها تريده أن يتحقق فيه قول الله سبحانه { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } آية 23 سورة الأحزاب. وقول الله سبحانه { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } آيه 37 سورة النور. وقول الله سبحانه في وصف الشاب المؤمن من آل فرعون { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين } آية 20 سورة يس. لكأني بها تريد أن يتحقق في ابنها قول الشاعر :
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خُلقي ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
وإنما اعتاض رأسي غير صبغته والشيب في الرأس غير الشيب في الهمم
هكذا هي وصية الأعرابية لابنها، وما أجمل أن نتمثل قولها ونأخذ بنصيحتها ونعمل بوصيتها.
وصية أعرابي لابنه
أوصى يوما أعرابي ابنه وصية أراد أن تكون هي سراجه في عتمة الدنيا وهاديه في دياجير ظلامها، وماذا يريد الأب لابنه غير السلامة والنجاة في الدنيا لأن في السلامة والنجاة منها ضمان للنجاة بإذن الله تعالى يوم القيامة، فقال الأعرابي: ( يا بُنّي، إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيه ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله عزوجل، واجعل أعمالك الصالحة هي بضاعتك التي تحملها فيها ، واجعل الحرص عليها ربحك ، واجعل الأيام موجها ، وكتاب الله دليلها ، وردّ النفس عن الهوى حالها وشراعها، واجعل الموت ساحلها، واجعل القيامة هي أرض المتجر والسوق التي تخرج إليها ، والله عز وجل مالكها ).
لمّا شبه الرجل الأعرابي الدنيا بالبحر العميق، فإنه لم يذهب بعيدا عمّا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: ” يا أبا ذر، جدد السفينة فإن البحر عميق، خفّف الحمل فإن العقبة كؤود، أكثر الزاد فإن السفر طويل، أخلص العمل فإن الناقد بصير”.
إنه يقول لابنه بضرورة أن يحذر الدنيا، وخوّفه من الغرق فيها لأنه لا نجاة عندها، مثلما أن الغريق في البحر العميق قلّما ينجو، والغريب أن غرقى الدنيا لا يتعظون بغيرهم ولا بمن سبقوهم، وإذا بالموج يتخطفهم الواحد تلو الآخر. وإنه يرشده إلى حبل النجاة وطوق الإنقاذ وسفينة الخلاص من غرق بحر الدنيا، إنه تقوى الله سبحانه.
وإن من يركب البحر وهو يعلم أن السفر فيه طويل وصعب ولا بد لهذا السفر من زاد وبضاعة يحتاجها، وإنه لا أفضل من الأعمال الصالحة تكون هي زاده وبضاعته يحملها في هذه السفينة، يريد بها أن يعبر بحر الدنيا المتلاطم الأمواج، وأن هذه الأعمال الصالحة أو قل هذه البضاعة هي رأسماله وربحه الذي سيربحه، وإذا حصل ولم يحافظ عليها فإنها الخسارة وأي خسارة.
ولأن الأيام تتقلب وتتبدل، ولعل الإنسان يكون يوما في حال فيصبح في اليوم الذي يليه في حال آخر، تماما مثلما هي الأمواج تفعل بالسفينة تتقلب فيها من حال إلى حال، فمرّة تكون هادئة ساكنة وإذ بها في مرة أخرى تصبح هائجة مائجة مثل الجبال تتقاذف بالسفينة. ولعل تقلبات الأيام وفتن الدنيا توشك أن تصرف الإنسان عن غايته وتفتنه وتختلط عليه الأمور، إلا أنه إذا اتخذ القرآن كتاب الله دليلا فإنه سيهديه ويرشده ولن يضيع في بحر الأيام، تماما مثلما أن ربّان السفينة يحافظ على البوصلة التي ترشده إلى الجهات والهدف الذي يريد الوصول إليه.
إنه يقول له إن هذه السفينة ” الدنيا ” ستمضي إلى الشاطئ مهما كان البحر عميقا وكبيرا، وأن الشاطئ ليس إلا الموت ونهاية الأجل، وعند الشاطئ تعرض البضاعة والأعمال التي كانت في السفينة ليتبين النافع منها والضّار، الغالي منها والرخيص، إنها الأعمال تعرض بين يدي الله سبحانه وتعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره } آيه7 سورة الزلزلة.
فإياكم وبحر الدنيا أن يغرقكم، فاركبوا سفينة النجاة وأكثروا فيها الزاد واستعينوا بالله وبتقواه وأنتم تقولون باسم الله مجراها ومرساها. وخذوا بوصية هذا الأب الصادق، ولا تقولوا مثلما قال ابن نوح لابنه وقد قال له { يا بني اركب معنا…. } آيه 42 سورة هود. فكان جوابه { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء…. } آيه 43 سورة هود.
يا شباب، أيها الأبناء إنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، فخذوا بوصية آبائكم وأمهاتكم، وخذوا بوصية أبيكم نوح عليه السلام لعلكم تنجون بأمر الله، وإلا فإنها الدنيا بحر غرق فيه خلق كثير.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون